فصل: تفسير الآيات (88- 90):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (88- 90):

{ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)}.
التفسير:
قوله تعالى: {ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} الإشارة هنا إلى هذا الفضل الذي فضل اللّه به تعالى على إبراهيم، ومن اجتباهم اللّه من ذريته، وأن ذلك لم يكن إلا من هداية اللّه لهم، وشرح صدورهم للإيمان به، ولولا ذلك لما كانوا من المهتدين.
وقوله سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} إنكار للشرك، ووعيد للمشركين، وأنه مما يجب على الإنسان العاقل أن يحذره كما يحذر النار التي تمد ألسنتها لتعلق به، وأن هؤلاء المكرمين من عباد اللّه لم ينالوا هذه المنزلة إلا بالإيمان باللّه، ولو أنهم كانوا من المشركين لما نالوا شيئا من هذا، ولكانوا من الخاسرين.
وهذا يعنى أن الهدى وإن كان من اللّه الذي يهدى به من يشاء من عباده، فإن ذلك لا يعفى الإنسان من أن يطلب الهدى، ويلتمس مواقعه، كما يطلب تحصيل الرزق ويلتمس وجوهه، وألّا يسلم نفسه إلى التواكل والاستنامة، الأمر الذي لا ترضاه البهائم لنفسها، ولا تتخذه موقفا لها في الحياة، وإلا هلكت، وماتت جوعا، مع أن اللّه سبحانه وتعالى، كفل لها رزقها، وضمن لها معاشها، إذ يقول جل شأنه: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها} [6: هود] فالموقف السلبي أو العنادىّ من سنن اللّه، هو الذي يخرج الكائن الحىّ- بل وغير الحىّ- عن طبيعته، وفى هذا ضياعه، وفساد أمره.
وهؤلاء رسل اللّه، والمصطفون من عباده.. إنهم لو أهملوا عقولهم، وعطّلوا ملكاتهم، لما فتح اللّه لهم طريق الهداية، ولما يسّر لهم التعرف إليه، ولكنهم أخذوا بالوسائل الموصلة إلى الهدى، فأخذ اللّه بنواصيهم إليه، ومكّن لهم من الإيمان.. ولو أنهم كانوا على مثل هذا الموقف الذي وقفه ويقفه المشركون والكافرون، لكانوا في مربط الشرك والكفر، ولضلوا وضل عنهم الطريق إلى اللّه، وإلى صراطه المستقيم.
وفى قوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}، وفى تعدية الفعل حبط بحرف الجرّ عن وهو فعل لازم لا يتعدى- في هذا إشارة إلى أن الأعمال التي يعملها الإنسان من شأنها أن تكون درعا يحميه، ووقاية يتقى بها ضربات الحياة، أمّا أعمال المشركين فإنها سراب خادع، يتخلّى عنهم وقت الحاجة والشدة، وهذا هو السرّ في تضمين الفعل حبط معنى الفعل: تخلى، أو ذهب، أو غاب.. ونحو هذا.
وقوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}.
الإشارة هنا إلى هؤلاء الأنبياء والرسل الذين ذكروا في الآيات السابقة، فبعضهم آتاه اللّه الكتاب، فكان رسولا بهذا الكتاب الذي بعثه اللّه به، وبيّن فيه أحكام شريعته.. وبعضهم أوتى الملك والحكم، وهو نعمة من نعم اللّه، وسلطان مبين يقيم به- من وفّقه اللّه- ميزان العدل والحق بين الناس، فيهدى ضالّهم ويقوّم سفيههم، ويحفظ أمنهم وسلامتهم.. وتلك رسالة لها خطرها وأثرها في إصلاح المجتمع الإنسانى، الأمر الذي جاءت به وله رسالات السماء.
ولهذا كان ذلك مما وصّى به اللّه سبحانه وتعالى نبيّه داود عليه السلام في قوله: {يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ} [26: ص].
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في اصطفائه طالوت ملكا، إذ يقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ} [247: البقرة].
وبعض هؤلاء المصطفين آتاه اللّه النبوة، بلا كتاب، ولا ملك، وإنما هي نور سماوى تشرق به نفس النبيّ، فيكون في الناس منارة هدى، ومعلما من معالم الخير، يتمثله الناس، ويتأسّون به.
وفى ترتيب هذه النعم على هذا الوجه: الكتاب.. والحكم.. والنبوة، إشارة إلى ما بينها من تفاوت وتفاضل.. فالرسول، صاحب رسالة سماوية، يعالج بها أرواح الناس، ويطبّ لعلهم النفسية.. والملك صاحب رسالة دنيوية، يعالج بها شئون الناس في الحياة، ويقيمهم على صراط مستقيم، فهو بهذا الوصف- مكمل لرسالة الرسول، ومطبّق للقانون السماوي الذي جاء به الرسول.. والنبىّ- بلا رسالة، ولا حكم- هو صيدلية يأخذ منها من يشاء الدواء لروحه وجسده، معا، بالعبرة والعظة، فيما يرى من هذا المثل الكريم للإنسان الكريم.
وقوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ}.
الإشارة هنا بهؤلاء مراد بها مشركو قريش.. والضمير في {بها} يعود إلى تلك الآيات والنعم التي حملها أنبياء اللّه، والتي حمل مثلها محمد صلوات اللّه وسلامه عليه إلى هؤلاء المشركين.. والمعنى، فإن يكفر هؤلاء المشركون بمحمد وبما بين يديه من آيات اللّه، فقد وكّل اللّه بها قوما، يؤمنون بها، ويدافعون عنها، ويحرسونها من كل عدوان.. فهم وكلاء اللّه وأمناؤه عليها- وهؤلاء هم الطليعة الأولى من المؤمنين، من المهاجرين والأنصار، ثم هم كل من يدخل في الإسلام إلى يوم القيامة.
وقوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ} والذين هدى اللّه: هم الذين سبقوا إلى الإسلام، وكانوا درعا حصينة له.. والأمر في قوله تعالى: {فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ} متوجه إلى كل من لم يستجب لدعوة الإسلام، ولم يكن في هذا الركب الميمون الذي استقبل فجر الإسلام، واكتحل بنور اللّه.. وهم الذين أشار إليهم اللّه سبحانه بقوله {فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ}، فمطلوب من كل إنسان يريد الخير، أن يهتدى بهؤلاء الذين هداهم اللّه.
وهذا الفهم الذي فهمنا عليه الآية الكريمة، هو الذي وقع في إدراكنا الشخصي، وهو فهم لم نجد من المفسرين من التفت إليه! والذي عليه إجماع المفسّرين، هو أن الأمر في قوله تعالى: {فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ} موجّه إلى النبي الكريم، وأن الذين هداهم اللّه في قوله تعالى. {أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} هم من ذكرهم اللّه من الأنبياء والرسل في الآيات السابقة.
ولهذا كان خروج هؤلاء المفسّرين من الاعتراض الذي استقبلهم به من يقول: كيف يدعى النبيّ إلى الاقتداء بمن سبقه من أنبياء ورسل، وهو إمامهم وقدوتهم؟- كان خروجهم من هذا ضيّقا حرجا، ومقولاتهم فيه متهافتة مضطربة.
وقوله تعالى: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} هو التفات للنبى الكريم من اللّه سبحانه وتعالى، ودعوة له أن يلقى قومه الذين دعوا إلى الاقتداء بمن سبقهم من إخوانهم إلى الإسلام، وأن يحثّهم على أن يسرعوا ليلحقوا بهم، وليدخلوا في دين اللّه مع الداخلين فيه، وذلك أمر لا يتكلّفون له مالا، لأن ما مع النبيّ من كتاب، لا يباع، وإنما هو ذكرى وموعظة للعالمين، أي للناس جميعا.
قريبهم وبعيدهم، على السواء {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ}.

.تفسير الآيات (91- 92):

{وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)}.
التفسير:
وهنا لا نلتقى مع المفسرين أيضا فيما ذهبوا إليه من أن قوله تعالى: {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} هو موجه إلى اليهود.. ويحكون لذلك قصة، مضمونها:
أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، سأل حبرا من أحبار اليهود، يقال له مالك بن الصّيف، فقال: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد فيها أن اللّه يبغض الحبر السمين؟ فأنت الحبر السمين! قد سمنت مما يطعمك اليهود!» فغضب اليهودي، وقال: {ما أنزل اللّه على بشر من شيء}! فكان قوله تعالى: {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ردّا على هذا القول المنكر.. ونستبعد هذا الخبر من وجوه:
أولا: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يكن قد التقى باليهود لقاء مواجها وقت نزول هذه السورة، المجمع على أنها مكية.. ويقوّى من هذا الإجماع على مكيتها، أن اليهود لم يواجهوا فيها مواجهة صريحة متحدّية.
وثانيا: أن النبيّ أعفّ وأكرم من أن يجابه حبرا، هذه المجابهة، التي لا تكشف عن غرض إلا سبّ هذا الحبر، وحقره، وما كان النبيّ سبّابا ولا لعّانا، ولا فاحشا، ولا متفحشا، بل كان في جميع أحواله على هذا الوصف الكريم الذي وصفه اللّه به: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
ثالثا: جاء في الآية: {وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ}.
واليهود الذين عاصروا النبيّ لم يعلّموا ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم.. بل كانوا أسوأ حالا، وأكثر غباء وجهلا مما كان عليه آباؤهم، حين واجههم القرآن.
ورابعا: غير مستساغ عقلا أن يقول اليهود مثل هذا القول، وأن يقوله حبر منهم، وبين أيديهم التوراة التي لا يختلفون أنها نزلت على موسى، بل وبين أيديهم أسفار أنبياء كثيرين ضمتها التوراة، والتي أطلق عليها العهد القديم.
ثم كيف يقول الحبر هذا القول والرسول الكريم يسأله بحق الذي أنزل التوراة على موسى؟
والذي نطمئن إليه في فهم هذه الآية، أن المخاطبين بها هم هؤلاء المشركون من أهل مكة.
وأن اللّه سبحانه وتعالى ينكر عليهم قولهم: {ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} إذا كان ذلك من مقولاتهم التي يعذرون بها لأنفسهم في انصرافهم عن النبيّ وتكذيبهم له، كما يقول اللّه تعالى عنهم: {أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [24: القمر] وقوله سبحانه: {وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا} [94: الإسراء].
فهؤلاء المشركون الذين ينكرون أن ينزّل اللّه على بشر هديا من السماء يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم- هؤلاء لم يقدروا اللّه حق قدره، ولم ينظروا إلى آثار رحمته، فيما يسوق اللّه سبحانه إلى عباده من نعم وما يحفّهم به من ألطاف، ينعمون فيها، ويتمتعون بها، فكيف ينكرون على اللّه أن يسوق إلى عقولهم وقلوبهم، من رحماته، ما يضيء ظلامها ويغسل أدرانها..؟
وفى قوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ} تحريض للمشركين أن يكونوا أهل كتاب، مثل هؤلاء اليهود الذين كانوا يحسدونهم على أنهم أهل كتاب، وأصحاب شريعة، وأنهم كانوا يتمنّون قبل بعثة النبيّ أن يكون لهم كتاب سماوى، كما يقول تعالى على لسانهم: {لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ} [157: الأنعام] أي لكنا أهدى من هؤلاء اليهود.
وفى قوله تعالى: {تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً} هو إشارة من بعيد إلى اليهود، بهذا الالتفات إليهم في هذه المناسبة، وإرهاص بما سيلقاهم به النبيّ بعد هذا من آيات اللّه، التي تفضح مخازيهم، وتكشف فساد عقيدتهم.. وقد قرئ: {يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا}.
والقراطيس جمع قرطاس، وهو الورقة.. إذ كان اليهود لا يتعاملون ولا يعملون بالكتاب الذي بين أيديهم، ولا يعرضونه على الناس كما هو، بل يعرضون منه قراطيس، فيها ما يوافق أهواءهم، ويخفون الكثير مما لا يشتهون.
وقوله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ} هو خطاب لهؤلاء المشركين من العرب، فقد جاءهم الرسول الكريم بعلم جديد، أذاعه فيهم، ونشره عليهم، فيما يتصل بالألوهية وما ينبغى لها من جلال وتفرد بالوجود.
وقد عرف المشركون هذا، وكانوا يسمعونه ويردّدونه، وإن كانوا لا يؤمنون به.
فهم- مع هذا العلم- لا عذر لهم في أن لم يؤمنوا باللّه، بعد أن أراهم الرسول الكريم الطريق إليه، وهذا علم جديد قد جاء إلى العرب، ولم يكن لآبائهم شيء منه.
وقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} هو دعوة للنبىّ أن يحدّث هؤلاء المشركين عن اللّه، وأن يكشف لهم الطريق إليه.. أي قل: هذا هو اللّه الذي أدعوكم إليه، فإن آمنوا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما هم في ضلال، يخوضون فيه خوضا.. فذرهم في خوضهم يلعبون.
وقوله تعالى: {وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} هو ردّ على القائلين:{ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} فجاء تكذيب اللّه لهم، وردّه عليهم بقوله: {وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ} أي القرآن وهو كتاب {مبارك} فيه رحمة وهدى وخير لمن آمن به، واهتدى بهديه.. وهو {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} من كتب سبقته، وهما التوراة والإنجيل.
وقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها} أم القرى هي مكة، وهى منارة الإسلام، ومتوجه كل مسلم في صلاته وحجّه.. وهى بهذه المثابة أمّ بلاد الإسلام كلها، ومركز دائرتها، وهكذا تكون على هذا الوصف أبدا.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ}.
الضمير في به، يعود إلى هذا الكتاب المبارك الذي أنزله اللّه، وهو القرآن.
وخصّ الذين يؤمنون بالآخرة، بالإيمان به، لأن من لا يؤمن بالآخرة، وما بعد هذه الدنيا من بعث وحساب، وثواب وعقاب، لا يؤمن باللّه، ولا بكتاب اللّه، ولا يوقّر حرماته، ولا يقع في قلبه خشية من منكر.
وخصّت الصلاة والمحافظة عليها بالذكر، لأنها أبرز ملامح المؤمنين، وأوثقها صلة بين المؤمن وربه.

.تفسير الآيات (93- 94):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)}.
التفسير:
فى قوله تعالى: {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} اتهام للقائلين بهذه المقولة، في تصورهم للألوهية، وفى فهمهم القاصر لها، كما أنه تقرير ضمنى بأن بعث الرسل، وإنزال كلمات اللّه عليهم، هو مما اقتضته حكمة اللّه ورحمته بعباده.
وهنا في قوله سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ} حماية للرسل- عليهم الصلاة والسلام- من أن يكونوا مظنّة تهمة في صدقهم، وصدق ما جاءوا به من عند اللّه.. إذ أن الافتراء على اللّه، والتلبيس على الناس باسمه، وادعاء النبوة واختلاق ما يكون بين يديها من كلمات اللّه وآياته- كل هذا عدوان على اللّه، وتطاول على ما تفرد به سبحانه من قدرة وعظمة، وفى هذا مهلكة وضياع لكل من يتلبّس بمنكر من هذه المنكرات.. وليس ثمة عاقل تسول له نفسه أن يقف هذا الموقف المفضوح، ويعرّض نفسه للفضيحة الفاضحة، والخزي المبين بين الناس! فكيف بأنبياء اللّه ورسله، وهم دعاة هدى، لا يبغون عليه من أحد أجرا- كيف يكون منهم الكذب على اللّه والتقوّل عليه بما لم يقل؟
وإذن فالذين يصطفيهم اللّه لحمل رسالته، ويضع بين أيديهم وعلى ألسنتهم كلماته وآياته- لا يختلط أمرهم على ذى عقل، ولا تلتبس دعوتهم بدعوة أدعياء النبوة، لما بين النبيّ والدعىّ من مفارقات بعيدة، سواء في ذات النبيّ والدعىّ، أو في محامل دعوة النبيّ ودعوة الدعىّ.
ففى سلوك النبيّ، استقامة، وصدق، وعفّة، وكمال، في كل أموره، ظاهرها وباطنها جميعا، مما لا يكون موضع شك أو إنكار عند أعدائه، فضلا عن أوليائه.
وليس كذلك الدعىّ الذي لا يمكن أن يقف هذا الموقف المخزى إلّا إذا كان على قدر كبير من الوقاحة، والتجرد من الحياء، وعدم المبالاة باتهام الناس له، وتشنيعهم عليه.
وفى محامل رسالة النبي.. النور والهدى، والخير، والعدل، والإحسان.
للناس جميعا.. لا لطائفة من الطوائف، ولا لطبقة من الطبقات.. أما ما تحمل رسالة المدعى- إن كان له رسالة- فهو الملق والرياء، والاستجابة للعواطف الخسيسة في الناس، وإباحة المنكرات لهم، ودعوتهم إلى تلك المنكرات باسم هذا الدين الكاذب، الذي يباركها ويبارك أهلها.
وفى قوله تعالى: {وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} عرض لهؤلاء الظالمين الذي افتروا على اللّه الكذب، وقالوا بما لم يقبله اللّه.
وفى هذا العرض يبدو المصير الذي يصير إليه كل ظالم، حين تنتهى أيامه القصيرة في هذه الدنيا، بحلوها ومرها، وبلهوها وعبثها، وإذ هو على مشارف الحياة الآخرة، وملائكة الرحمن يمدّون أيديهم لانتزاع ثوب الحياة الذي يلبسه هذا الجسد، الذي كان يمشى في الأرض مختالا فخورا، يحسب أن ماله أخلده.. وما هي إلا لحظات، يعالج فيها سكرات الموت، حتى يكون جثة هامدة، كأنه لقى ملقى على الطريق، بل إنه يصبح سوأة يجب أن تختفى وتتوارى عن الأنظار، وتغيّب في باطن الأرض.. وليس هذا فحسب، بل إن ذلك هو بدء لمرحلة جديدة، لحياة أخرى غير الحياة التي كان فيها.. إنه سيبعث من جديد، ويلبس ثوب الحياة مرة أخرى، ولكن لا ليكون مطلق السّراح، يلهو ويعبث، بل ليلقى به في جهنم، وليكون وقودا لجحيمها المتسعر! وفى قوله تعالى: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} إشارة إلى هذا الأمر الملزم، الذي يحمله الملائكة، لقبض أرواح الظالمين، وأن الملائكة، وهم الموكلون بقبض هذه الأرواح، يحملون هؤلاء الظالمين حملا على انتزاعها بأنفسهم، وإعطائها لهم بأيديهم، وفى هذا تنكيل بهم، وإذلال وقهر لهم، بأن يحملوا حملا على انتزاع حياتهم بأيديهم.. هكذا {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ}.
وهل يعطى الإنسان نفسه بيده؟ إنه لأهون عليه كثيرا أن ينتزعها أحد منه قهرا وقسرا، من أن يكون هو الذي يقدّم بيديه أعزّ شيء يملكه، بل كل شيء يملكه.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} هكذا يجد الظالمون أنفسهم يوم القيامة.. في وحشة قاتلة، لا يلتفت أحد إلى أحد، ولا يفكر إنسان في إنسان. {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}، عن أن يشغل بغيره، أو ينظر إليه نظرة.
{وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ} فليس مع الإنسان في هذا اليوم شيء مما جمع في الحياة الدنيا، من مال، وما استكثر من متاع، وما اتخذ من أخدان وخلّان.
وفى قوله تعالى: {خَوَّلْناكُمْ} تذكير لهم بأن كل ما كان لهم في هذه الدنيا هو مما للّه عندهم، فهو الذي خوّلهم أي أعطاهم هذا الذي كان لهم، وهم يحسبون أن ذلك كان من صنع أيديهم، ومن معطيات حولهم وحيلتهم.
وقوله تعالى: {وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ} هو تنبيه لهؤلاء الغافلين، وإلفات لهم أن يخرجوا من هذا الوجوم الذي هم فيه، ومن تلك السّكرة المستولية عليهم، حتى يديروا أنظارهم إلى ما حولهم، ليبحثوا عن معبوداتهم التي كانوا على ولاء لها، واطمئنان بها.. يفزعون إليها في كل شدّة، ويهرعون إليها عند كلّ ملمّة. وهذه هي ملمة الملمات، وشدة الشدائد.
فأين هؤلاء الشفعاء؟ وأين ما كان يرجى منهم عند كل بلاء؟.. فليدعوهم.
فليجيئوا لهم.. إن كانوا صادقين! إنه لا شيء هنا، إلا الوحشة المطبقة، والحسرة القاتلة، والخسران المبين..!
فهذه الأبصار الزائغة، التي تدور هنا وهناك تبحث عن هؤلاء الشفعاء، لا تلبث أن تغيم الرؤية عليها، فلا ترى شيئا مما حولها من شفعاء أو غير شفعاء.. وهنا يدخل على الظالمين من أسماعهم، صوت الحق، يجيئهم بجواب ما كانوا يبحثون عنه: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}.
وفاعل الفعل {تقطع} محذوف دلّ عليه السياق.. ومن السرّ في حذفه أنه أكثر من فاعل.. فالذى {تقطع} بين الظالمين وبين ما كان لهم، هو أكثر من أمر.
لقد تقطع ما بينهم وبين ما كان لهم من مال وبنين، وتقطع ما بينهم وبين ما كان لهم من آلهة اتخذوهم شفعاء لهم عند اللّه. وتقطع ما بينهم وبين كل وسيلة يتوسلون بها إلى الخلاص من هذا البلاء الذي هم فيه. وهكذا: لقد تقطعت الأسباب بينهم وبين كل ولىّ من أوليائهم، أو قوة من قواهم.